فصل: مسألة المحارب إذا أتى تائبا وقد كان زنى أو سرق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة وقعت له شفعة وهومرتد أيأخذها:

قيل له: أرأيت إن وقعت له شفعة، وهو مرتد أيأخذها؟ قال: ليس ذلك له، قال العتبي: إن رجع أخذ شفعته.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف فيما قاله العتبي من أنه أحق بشفعته إذا تاب، ولا في أنه ليس له أن يأخذ بعد أن يحجر عليه، وإنما الكلام هل له أن يأخذ شفعته قبل أن يحجر عليه، فظاهر هذه الرواية أن ذلك ليس له، فإن أخذها كان للسلطان أن يرد فعله في ذلك، وهو قول سحنون على أصله في أنه محجور عليه في ماله بنفس ارتداده، وحكى عنه ابن أبي زيد في النوادر على أنه من العتبية في المرتد يحبس، فتجب له الشفعة، قال: هو محجور عليه، فإن تاب فله الشفعة، وإن قتل فهي للسلطان يأخذها إن شاء لبيت المال أو يترك.
والمشهور من مذهب ابن القاسم أن أفعال المرتد في ماله ماضية ما لم يحجر عليه برفع أمره إلى السلطان، وسجنه خلاف ظاهر قوله في هذه الرواية، وقد مضى هذا المعنى في المسألة التي قبل هذه، وفي رسم إن خرجت، من سماع عيسى، وبالله التوفيق.

.مسألة إذا أقيم على المحارب الحد:

قال سحنون: إذا أقيم على المحارب الحد، فحكمه حكم السارق فيما وجب عليه من الأموال إن كان له وفر، وهو متصل، يؤخذ منه جميع الأموال دية النصراني، وقيمة العبيد واستكراه النساء، وجميع ما استهلك من الأموال، وإن لم يكن له وفر متصل، لم يتبع بشيء إذا لم تقم عليه الحدودات، فحكمه حكم رجل فعل هذه الأشياء، وليس بمحارب يلزمه ذلك في ذمته وماله والقصاص لمن له القصاص.
قال محمد بن رشد.: وقعت هذه المسألة في خارج كتاب ابن لبابة من الأصل، وهي صحيحة بينة لا إشكال فيها ولا اختلاف في المذهب.

.مسألة النصراني يسلم في أيام شدة وضيق من الخراج ثم يرجع إلى الإسلام:

ومن كتاب الأقضية:
قال يحيى: وسأله ابن وهب عن راهب قيل له: أنت رجل فصيح عربي قد عرفت فضل الإسلام وأهله على غيره من الأديان، فما يمنعك من الإسلام؟ فقال: قد كنت مسلما زمانا فعرفت الإسلام، ولم أر دينا أفضل من النصرانية، فرجعت إليها للذي عرفت من فضلها، فبلغ ذلك السلطان فأرسل إليه فسأله عن قوله، فقال: قد قلت ذلك، ولم أكن مسلما قط، وإنما كان ذلك قولا قلته، فحبسه السلطان، والتمس عليه البينة في إسلامه، فلم يجد بينة تشهد على إسلامه إلا القول الذي أقر به، فماذا يجب عليه؟ قال: لا أرى عليه قتلا ولا عقوبة، ولا يستتاب كمن يعد مرتدا، إلا من شهد عليه أنه رئي يصلي ولو ركعة واحدة من الصلاة.
قلت: فإن تشهد وأقر بالنبي، وعرف الفرائض من أداء الزكاة والحج وصيام رمضان فريضة، وتشهد به بعد العلم به، وهو ممن لا يعذر بالجهالة؟ فلم يجب بشيء.
وسألت عن ذلك ابن القاسم، فقال: سمعت مالكا يقول: لا يقتل على الارتداد إلا من ثبت عليه أنه كان على الإسلام، يعرف ذلك منه طائعا يصلي مقرا بالإسلام من غير أن يدخل الإسلام هربا من ضيق عذاب عذب به في جزية، أو ما أشبه ذلك، أو يكون حمل من جزيته ما لا طاقة له به فألجأه ذلك إلى الإسلام، فمن ألجئ إلى ذلك منهم لما بلغ به من عذابه في خراجه أو طول سجن، فإنه يقال: إن أسلم إذا عرف ذلك من عذره. قال أصبغ: قال ابن وهب مثله.
وسألت عنها أشهب وقلت له: النصراني يسلم في أيام شدة وضيق من الخراج، ثم يرجع إلى الإسلام، ويرجع ويزعم أن إسلامه إنما كان من ضيق ضيق به عليه، ولا يعلم ذلك إلا بقوله، فقال لي: بل لو علم ذلك كما قال، وشهد له بذلك غيره، لرأيت أن يقتل إن لم يرجع إلى الإسلام، ولم ير ابن وهب عليه القتل إذا كان عن ضيق أو عذاب أو خوف، وأشارا به جميعا على إسحاق بن سليمان الهاشمي، ونزلت به عندنا في مصر.
قال الإمام القاضي: أما الراهب الذي قال: كنت مسلما زمانا، ثم قال لما وقف على ذلك: ما كنت مسلما قط، وإنما كان ذلك قولا قلته، فقول ابن وهب فيه: إنه لا قتل عليه ولا عقوبة، بين صحيح؛ لأنه شاهد على نفسه بالإسلام، فلا يصح أن يقتل بشهادته على نفسه؛ إذ قد رجع عنها، وقال: إنه كذب على نفسه فيها كما لو شهد عليه شاهدان بالإسلام، ثم رجعا عن شهادتهما، وقالا: كذبنا فيما شهدنا به عليه من ذلك، ولما سأله عمن رضي بالإسلام بعد وقوفه على فرائضه، وأقر بالنبي، وتشهد، ثم رجع عن الإسلام لم يجبه بشيء، ومن مذهبه أنه لا يقتل على الكفر من أنكر الإسلام من أهل الذمة، إذا لم يشهد عليه إلا بالتشهد بالإسلام، وذلك بين من قوله، ولا يستتاب كمن يعد مرتدا إلا من شهد عليه، أنه رئي يصلي ولو ركعة واحدة من الصلاة، مثل ما حكى ابن القاسم أنه سمع مالكا يقول: لا يقتل على الارتداد إلا من ثبت عليه أنه كان على الإسلام يعرف ذلك منه طائعا يصلي؟ وأصبغ يقول: إنه من أسلم طائعا ثم ارتد بعد طول مكث أو بقرب، صلى وصام ولم يفعل، ثم رجع في موقفه، فيسلك به مسلك من ولد على الفطرة.
والاستتابة ثلاثة أيام يخوف فيها القتل، ويذكر الإسلام ويعرض عليه، ولا اختلاف فيمن اعتقد الإسلام بقلبه أنه مسلم مؤمن؛ لأن الإيمان من أفعال القلوب، ولا في أنه يحكم له بحكم الإسلام بإظهار الشهادة، فيورث به ويصلي عليه، ويدفن في مقابر المسلمين، وإن مات من ساعته قبل أن يصلي أو يصوم؛ نعم وإن مرت به أوقات صلوات قبل أن يموت، فلم يصل لأن ذلك يحمل منه على التضييع والتفريط الذي لا يخرج من الإسلام والإيمان في قول كافة العلماء، فقول أصبغ: إنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهو القياس.
ووجه ما ذهب إليه ابن وهب ومالك فيما حكى ابن القاسم من أنه لا يستتاب ولا يقتل حتى يصلي؛ اتباع ظاهر قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «من غير دينه فاضربوا عنقه» لأنه لا يستحق أحد التسمية بأنه على دين الإسلام إلا بالتمادي على فعل شرائعه من الصلاة والزكاة والصيام والحج؛ لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا»، ولأنا لسنا على يقين من صحة الشهادة عليه بالإسلام إذا كان منكرا لاحتمال أن الشهود قد شبه عليهم فيما شهدوا به عليه؛ لأن الاختلاف إنما هو إذا كان منكرا لما شهد به عليه من الإسلام، ولو أقر بما شهدوا به عليه من الإسلام، لوجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وإن كان لم يصل باتفاق، والله أعلم.
وقول ابن القاسم وابن وهب: إنه يعذر في أنه إنما أسلم لما ذكره من أنه حمل من جزيته ما لا يحتمله وما أشبه ذلك، إذا عرف ذلك من عذره يدل على أنه لا يصدق في ذلك إذا لم يعرف عذره. وقد روى أبو زيد عن ابن القاسم في النصراني يسلم ويصلي ويقول: أسلمت مخافة الجزية، أو أن أظلم، قال: يقبل ذلك منه، وليس كالمرتد، ذكر هذه الرواية ابن أبي زيد في النوادر، ومعنى ذلك إذا أشبه ما ادعاه.
وتحصيل هذا أنها مسألة فيها قولان:
أحدهما أنه لا يعذر، وهو قول أشهب، وحكى ابن حبيب مثله عن مطرف وابن الماجشون.
والثاني: أنه يعذر، واختلف على القول بأنه يعذر هل يصدق في العذر إذا ادعاه على قولين: أحدهما: أنه لا يصدق، وهو قول ابن القاسم وابن وهب في هذه الرواية. والثاني: أنه يصدق هو قول ابن القاسم في رواية أبي زيد عنه، ومعنى ذلك إذا أشبه ما ادعاه، وقد مضى في أول السماع من معنى هذه المسألة، وفي أول سماع عيسى أيضا، فقف على ذلك كله وتدبره، وبالله التوفيق.

.مسألة ارتداد أحد الزوجين يقطع العصمة فيما بينهما:

قال ابن القاسم في المرتدة: لا تحل لزوجها إذا تابت إلا بنكاح جديد، ولا يحل له وطؤها في ارتدادها.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في كتاب النكاح الثالث من المدونة: أن ارتداد أحد الزوجين يقطع العصمة فيما بينهما، قال فيها: وتكون تطليقة بائنة، وهو معنى قوله في هذه الرواية، وابن الماجشون يرى أن ارتداد أحد الزوجين فسخ بغير طلاق، وقد روي عن سحنون أنها إن رجعت إلى الإسلام كان زوجها أملك بها، ومعناه ما كان في عدتها؛ لأن الوجه في ذلك أنه رأى ارتدادها في ذلك طلقة رجيعة، وهو عن مالك في كتاب أمهات الأولاد من المدونة: أن ارتداد الزوج طلقة رجيعة، يكون أحق بها إن أسلم في عدتها.
فيتحصل في ارتداد أحد الزوجين ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنها طلقة بائنة. والثاني: أنها طلقة رجعية. والثالث: أنه فسخ بغير طلاق، وقد مضى هذا في رسم العتق، من سماع عيسى، وروي عن علي بن زياد، عن مالك أنه إن علم أنها أرادت بارتدادها الضرر بزوجها لم يكن ذلك طلاقا، وأمسك امرأته كما كانت، وبالله التوفيق.

.مسألة ذبيحة المرتد:

قال: ولا تحل ذبيحة المرتد، ولا يقام عليه حد الزنا، ولا شرب المسكر، فعل ذلك في ارتداده أو قبل ذلك، ولكن يقام عليه حد الفرية والقطع في السرقة، جنى هذين الذنبين في الارتداد أو قبله، قال: وإنما ينظر في هذا كله إذا تاب، قلت له: فإن أصر على الكفر؟ قال: يعفى عنه من القطع ولا يوضع حد القذف.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة من أن المرتد إذا تاب لا يؤخذ من الحدود بما يؤخذ به الكافر حال كفره وهو السرقة والقذف؛ لأن النصراني إذا سرق قطع، وإذا قذف مسلما حد القذف على ما ذهب إليه ابن حبيب، وحكاه عن أصبغ من أنه يؤخذ بالحدود كلها حد الزنا وحد الشرب، وغيرهما من الحدود، وأنه يتهم على أن يظهر الارتداد؛ ليسقط عن نفسه ما وجب عليه من الحدود، وأما إذا قتل على ردته، فالقتل يأتي على جميع الحدود الواجبة عليه حاشى حد القذف، وبالله التوفيق.

.مسألة قوم يصلون ركعتين ويجحدون السنة:

قال معن: وكتب إلى مالك من المغرب يسأل عن قوم يصلون ركعتين ويجحدون السنة، ويقولون: ما نجد إلا ركعتين، قال مالك: أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا.
قال محمد بن رشد: قول معن، وكتب إلى مالك من المغرب ويجحدون السنة أي الطريقة؛ لأن صلاة الظهر والعصر والعشاء الأخيرة أربع ركعات، لا يقال فيها: إنها سنة، بل هي فريضة أحكمتها السنة، وانعقد عليها الإجماع، فمن جحد ذلك كان كافرا كما قال، يستتاب إن تاب وإلا قتل؛ لأنه بمنزلة أن لو جحد فرض صلاة من الصلوات، ويحتمل أن يريد بقوله في السؤال: ويجحدون السنة في تقصير المسافر الصلاة، ويزعمون أنها في الأصل مقصرة، والأول أبين، وهو الذي حفظته في ذلك عن الشيخ ابن جعفر، وبالله التوفيق.

.مسألة لا يجبر الصبي المسبي على الإسلام إذا كان قد عقل دينه:

من سماع محمد بن خالد من ابن القاسم قال محمد بن خالد: قال ابن القاسم: لا يجبر الصبي المسبي على الإسلام إذا كان قد عقل دينه، وأراه قد ذكره عن مالك.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يجبر على الإسلام إذا كان قد عقل دينه يدل على أنه يجبر عليه إذا كان لم يعقل دينه، وفي ذلك اختلاف كثير تحصل فيه ستة أقوال؛ أحدها: أنه يجبر عليه جملة من غير تفصيل. والثاني: أنه لا يجبر عليه جملة أيضا من غير تفصيل. والثالث: أنه يجبر عليه إذا لم يسب معه أحد أبويه، إذا لم يكن معه في ملك واحد، فإن سبي معه أحدهما لم يجبر عليه. الرابع: أنه يجبر عليه، وإن سبي معه أحد أبويه إذا لم يكن معه في ملك واحد. والخامس: أنه يجبر عليه إن لم يسب معه أبوه، ولا يلتفت في ذلك إلى أمه، فإن سبي معه أبوه لم يجبر عليه. والسادس: أنه يجبر عليه، وإن سبي معه أبوه، إذا لم يكن معه في ملك واحد وفرق بينهما السهمان، واختلف على القول بأنه يجبر في الموضع الذي يجبر فيه إن مات صغيرا قبل أن يعقل، هل يحكم له بحكم الإسلام في غسله والصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين على خمسة أقوال قد مضى تحصيلها في رسم الشجرة، تطعم في سنة من سمع ابن القاسم من كتاب الجنائز.
وأما إذا سبي وقد عقل دينه، فلا أذكر نص خلاف فيما ذكروه من أنه لا يجبر عليه، وقد يدخل في ذلك الاختلاف بالمعنى على بعد، وهو أن لا يعتبر بكونه ممن يعقل دينه على قياس القول، بأنه لو أسلم في هذه الحال لم يعتبر بإسلامه، فيكون لسيده أن يجبره على الإسلام، والأظهر ما قاله في الرواية من أنه لا يجبر على الإسلام، ولقوله عز وجل: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، وبالله التوفيق.

.مسألة تزوج نصرانية فولدت له أولادا فلما بلغوا قالوا لا نسلم:

وسئل عن رجل تزوج نصرانية، فولدت له أولادا، فلما بلغوا قالوا: لا نسلم، فماذا ترى عليهم؟ قال: يجبرون على الإسلام على ما أحبوا أو كرهوا، ولا يبلغ بهم القتل.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن أمهم حملتهم على النصرانية حتى بلغوا، ولذلك لم ير أن يبلغ بهم القتل إذا أبوا الإسلام؛ لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه؛» إذ لا اختلاف في أنه لو لم تنصرهم أمهم لكانوا مسلمين بإسلام أبيهم، يقتلون عليه بعد البلوغ إن أبوه؛ إذ لا اختلاف في أن الولد تبع لأبيه في الدين، وبالله التوفيق.

.مسألة المحارب إذا أتى تائبا وقد كان زنى أو سرق:

من سماع عبد الملك بن الحسن قال عبد الملك بن الحسن، سألت أشهب عن المحارب إذا أتى تائبا، وقد كان زنى أو سرق، هل يوضع ذلك عنه؟ فقال: لا يوضع عنه.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى القول فيها في رسم القراض، من سماع أشهب، فلا معنى لإعادته.

.مسألة ولد المرتد الصغار إذا أبوا الإسلام إذا كبرواهل يقتلون:

وسألت ابن القاسم عن ولد المرتد الصغار، إذا أبوا الإسلام إذا كبروا، هل يقتلون؟ وكيف بمن ولد له، وهو في ارتداده هل سبيلهم واحد؟ قال: أما ما ولد له، وهو في الإسلام؛ فإنه يستتاب، ويكره على الإسلام على ما أحب أو كره، ويضيق عليه، ولا يبلغ به القتل إذا كان أبوه قد أدخله في نصرانيته قبل أن يموت، وأما ما ولد له في ارتداده؛ فإنهم إن أدركوا قبل أن يحتلموا أو يحضن إن كن نساء، فإني أرى أن يردوا إلى الإسلام، ويجبروا على ذلك، وإن لم يدرك ذلك منهم حتى يكبروا، أو يصيروا رجالا ونساء، رأيت أن يقروا على دينهم؛ لأنهم إنما ولدوا على ذلك، وليس ارتداد أبيهم قبل أن يولدوا ارتدادهم؛ لأنهم على النصرانية ولدوا، فأحسن ذلك أن يجبروا إذا كانوا صغارا إن أطاعوا، وإن كبروا تركوا على دينهم، وقال ابن كنانة في ولد المرتد إذا قتل: إنه يعقل عنه المسلمون، ويصلون عليه إذا مات، فإن تنصر وعلم بأمره استتيب، فإن تاب وإلا قتل، وإن غفل عنه حتى يشيخ ويتزوج لم يستتب ولم يقتل.
قال محمد بن رشد: إنما قال ابن القاسم في ولد المرتد الصغار الذين ولدوا له قبل ارتداده: إنهم يستتابون إذا بلغوا ويكرهون على الإسلام، ولا يبلغ بهم القتل إذا كان أبوهم قد أدخلهم في نصرانيته؛ لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه» فرأى لهذا الحديث إدخال أبيهم إياهم في نصرانية شبهة لهم تمنع من قتلهم إن أبوا الإسلام لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]؛ لأنهم على دين قد أدخلهم أبوهم فيه، فوجب أن لا يقتلوا على التمسك به، وقول ابن القاسم في هذه المسألة يصحح تأويلنا في مسألة سماع محمد بن خالد المتقدمة، وأما ولد الذين ولدوا له بعد ارتداده، فاستحسن ابن القاسم أن يردوا إلى الإسلام إن أدركوا قبل البلوغ، وأرى أن يتركوا على حالهم، إن لم يدركوا حتى يبلغوا من أجل أنهم على الكفر ولدوا، فليسوا بمنزلة أبيهم في الارتداد؛ إذ لم يكفروا بعد إسلام منهم خلاف ما قاله ابن كنانة من أنهم يستتابون، فإن تابوا وإلا قتلوا ما لم يشيخوا على الكفر ويتزوجوا عليه.
ووجه ما ذهب إليه ابن كنانة من أنهم يستتابون، فإن تابوا وإلا قتلوا، وإن كانوا لم يرتدوا من الإسلام إلى الكفر لولادتهم على الكفر هو أنه لما كان الحكم أن يكون الولد تبعا لأبيه في الدين، وكان الأب على دين لا يقر عليه، وجب أن يكون بمنزلته في ألا يقر عليه، وأن يقتل إن أبى الإسلام إلا أن يشيخ ويتزوج، فيترك مراعاة للاختلاف في ذلك، وبالله التوفيق.

.مسألة المسلم تكون أمه نصرانية فتسأله السير معها إلى الكنيسة:

وسئل ابن وهب عن المسلم تكون أمه نصرانية، فتسأله السير معها إلى الكنيسة، فهل ترى له سعة في المسير معها؟ قال: لا أرى بأسا أن يسير بها حتى يبلغها ولا يدخلها الكنيسة، قيل له: فله أن يعطيها نفقة لعيدها؟ قال: نعم، يعطيها نفقة لطعامها وشرابها، ولا يعطيها نفقة لما تعطي لكنيسها.
قال محمد بن رشد: هذه المسألة قد تقدمت متكررة في هذا السماع من كتاب التجارة إلى أرض الحرب، وقلنا فيها هناك: إن رأي المسير معها إلى الكنيسة أخف من أن يعطيها ما تعطى فيها؛ لأن مسيره معها إلى الكنيسة لا منفعة فيه للكنيسة، وإنما هو عون لأمه على الوصول إليها، وإعطاؤها ما تعطى فيها منفعة لها، وسبب لعمارتها بمثابة أن لو أعطى ذلك هو فيها، وفي المبسوطة لمالك أنه لا يسوغ أن يسير معها إلى الكنيسة، والاختلاف في هذا على الاختلاف في الكفار هل هم مخاطبون بالشرائع أم لا؟ وقد مضى بيان هذا في رسم يسلفون في المتاع والحيوان المضمون، من سماع ابن القاسم من الكتاب المذكور.

.مسألة ميراث الذي يرتد عند الموت:

من سماع أصبغ بن الفرج، من ابن القاسم من كتاب الحدود قال أصبغ: سئل ابن القاسم عمن قال في مرضه: لم أكن مسلما قط، وإنما كنت أرى فيها أنه لا يورث إذا مات؛ لأنه بلغني أن مالكا سئل عن رجل كفر عند موته، قال: لا أرى أن يورث.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة أن المرتد في مرضه لا يورث منه ورثته، وزاد فيها قال: لا يتهم هاهنا أحد أن يرتد عن الإسلام في مرضه؛ لئلا يرثه ورثته، قال: وميراثه للمسلمين، وهو بين على ما قاله إذا استتيب، فلم يتب فقتل على ردته؛ لأن القتل يرفع عنه التهمة، وأما إذا لم يقتل ومات من مرضه ذلك، فينبغي أن يورث منه ورثته، إذا اتهم على أنه إنما ارتد على أن لا يرثه ورثته، على ما روي عن ابن وهب أنه قال: سمعت مالكا يقول: الذي يرتد عند الموت لا يرثه ورثته من المسلمين، إلا أن يتهم أنه أراد أن يمنعهم ميراثهم منه، فعلى هذا لا تكون رواية ابن وهب مخالفة لما في المدونة من أن المرتد في مرضه لا يتهم بقطع ميراث ورثته؛ لأنه إنما تكلم فيها على أنه قتل على ردته.

.مسألة من قتله أمير المؤمنين من الزنادقة:

قال: وبلغني عن مالك ممن أثق به، وكتب إليه يستفتيه فيمن قتله أمير المؤمنين من أولئك الزنادقة، فرأى مالك أن يورث منهم ورثتهم المسلمون، ورآهم مثل المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد كان رسول الله يعلم أنهم كفار، فورثهم ورثتهم من المسلمين، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حي، وأخبرني ابن أبي زنبر: أن رجلا جاء إلى مالك فقال: إن أبي كان يعبد الشمس، أفترى لي أن أرثه؟ قال: نعم، أرى ذلك، يعني أنه كان يعبد الشمس سرا، ويظهر الإسلام.
قال محمد بن رشد: ما حكى ابن القاسم في هذه الرواية من أنه بلغه عن مالك أن الزنادقة المقتولين على الزندقة، يرثهم ورثتهم من المسلمين، وأنه رآهم مثل المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هو مثل ما تقدم في رسم يدير ماله، من سماع عيسى، خلاف رواية ابن نافع عن مالك، وقد مضى هناك الكلام على ذلك، فأغنى عن إعادته هنا مرة أخرى.

.مسألة الساحر من أهل الذمة إذا عثر عليه:

قلت: أرأيت الساحر من أهل الذمة إذا عثر عليه؟ قال: إن أسلم لم يقتل، وإن لم يسلم قتل، وهو بمنزلة من شتم النبي من النصارى؛ إن أسلم لم يقتل، وإن لم يسلم قتل.
قال محمد بن رشد: السحر كفر، فهو بمنزلة الزندقة، قال ابن المواز: من قول مالك وأصحابه أن الساحر كافر بالله، فإذا سحر هو بنفسه، فإنه يقتل ولا يستتاب، والسحر كفر قال تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة: 102]، وقال مالك: هو كالزنديق إذا عمل السحر هو بنفسه؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة: 102]، وقد أمرت حفصة بجارية لها سحرتها أن تقتل فقتلت، قال ابن عبد الحكم وأصبغ: هو كالزنديق، ميراثه لورثته من المسلمين، وإن كان للسحر والزندقة مظهرا استتيب، فإن لم يتب قتل، وكان ماله في بيت المال، ولا يصلي عليه بحال، وأما الذي يسر ذلك إذا قتل فيرثه ورثته، ولا يأمرهم بالصلاة عليه، فإن فعلوا فهم علم.
ويقتل الساحر إذا كان من أهل الذمة، إلا أن يكونوا أدخلوا بسحرهم ضررا على المسلمين، فيكون نقضا للعهد، فإن تاب فلا توبة له إلا بإسلام، وقال مالك: وإن سحر بذلك أهل ملته فليؤدب، إلا أن يقتل أحدا فيقتل به، فقوله في هذه الرواية في الساحر من أهل الذمة: إنه يقتل إلا أن يسلم خلاف ما تقدم من قوله في رسم بع ولا نقصان عليك، من سماع عيسى في النصراني، لا يؤاخذ على الزندقة؛ أنه يترك وزندقته.
ويتحصل في النصراني يتزندق أو يعثر على أنه ساحر ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه يترك، وما هو عليه من الزندقة والسحر، إلا أن يدخل بسحره ضررا على المسلمين، فيكون ذلك نقضا للعهد. والثاني: أنه يقتل إلا أن يسلم، وهو قوله في هذه الرواية. والثالث: أنه يقتل وإن أسلم؛ لأن الزنديق لا تقبل منه توبة، روي ذلك عن ابن الماجشون، وقد ذكرنا ذلك في رسم بع ولا نقصان عليك، من سماع عيسى.
وأما الساحر من المسلمين فيقتل سحر مسلما أو ذميا، روى ذلك ابن وهب عن مالك، وبالله التوفيق.

.مسألة الزنديق إذا أقر بالزندقة ثم قال أنا تائب:

وسئل أصبغ عن الزنديق إذا أقر بالزندقة ثم قال: أنا تائب؟ قال: إن كان إقراره بعدما ظفر به أو ظهر عليه، فلا توبة له، وليقتل قتلا... إلى النار، ولا يناظر بشيء، وإن كان من قبل نفسه جاء تائبا فعسى.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، لا إشكال فيه، والحمد لله.

.مسألة رجل أيقن برجل أنه زنديق فاغتاله فقتله:

قلت: فرجل أيقن برجل أنه زنديق، فاغتاله فقتله؟ قال: إن صح له ذلك بالثبت، برئ من السلطان وعقوبته، ولم يكن للسلطان عليه مجاز إلا النهي والتعزير في العجلة قبل أن يثبت للسلطان، فإما قتل أو غير ذلك من العقوبة، فليس عليه إذا صح ذلك على المقتول صحة بينة، وهو محسن فيما بينه وبين الله إذا كان على يقين، لا لبس فيه من أمره وكفره وزندقته، ولعل الولاة تضيع مثل هذا، ولا تصححه، وقد بلغني عن ابن عمر أنه ذكر له أن راهبا يتناول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، فقال: هلا قتلتموه، وأخبرنا سفيان بن عيينة، وبلغني عنه في يهودي تناول شيئا من حرمة الله تعالى غير الذي هو فيه من ذمته، وتحاج فيه آونة فخرج عيينة بالسيف، فطلبه حتى هرب منه، ذكره ابن وهب عن أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر.
قال محمد بن رشد: هذا بين لا إشكال فيه، ولا وجه للقول، وبالله التوفيق.
تم كتاب المحاربين والمرتدين بحمد الله تعالى.
انتهى الجزء السادس عشر من البيان والتحصيل لأبي الوليد بن رشد.